تدوينات.

رسالةُ حبٍ متأخرة!

وحدها الأفكار التي تعتمر تلك الفجوة داخل رأسك، رأسك الذي تعبت أكتافك من حمله طيلة أعوامك العشرين، وحدها تتعبك أنت، حشو كبير من الأفكار يدور هناك، نفهمها ولا نفهمها، لا زالت تدهشني كلَّ مرةٍ حين تكتمل الحلقة، يبدو المشهد واضحاً، واضحاً للعيان، لا غبَش فيه ولا شبهة، كل العقُد حُلَت امام ناظريك، لا شيء تُنْكِره، يجدُر بك أن تسلّم بالحقيقة البائنة ،أنت، نعم أنت! ، لم لم تخبرني بذلك كله؟ أدرك أنّك كنت تعلم كل شيء، لكنك لم تخبرني، لماذا انتظرت حتى سلّمت الروح الى بارئها، كنتَ كل مرة تدلي لي بطرف الخيط، و تولّي بعيداً، لم أكن أفهم شيئاً مما كنت تقصده، لماذا تركت الأمور عائمةً حتى الموت.

هل أردت أن تكون هي تلك اللحظة الفاصلة، انا لا أدري بعد، يا صديقي، شيءٌ واحد أدركته الآن، ادراكاً مسلِّماً موقناً بصحته، مستعجباً مستغرباً و مندهشاً من سير خط هذا القدر! كيف يكون القدر معقداً و بسيطاً في آن واحد، كيف تظل دوائر القدر تتشابك على مرَّ السنين، حينما تكون اقرب للحقيقة الغائبة، بعيداً عنها أقل من خطوة، في وهلةٍ تنكشف السُتُر، وتُنحَلُ العقد، و تكتمل الدائرة! انا يا صديقي مندهش للغاية، لم أصدق انكَ قد متّ بعدُ، ولم أصدق أن الدائرة قد اكتملت! كيف تكتمل و قد أُنْقِصتَ أنت منها… لكنها اكتملت!

كان موتك اللحظة الفاصلة، ويبدو أنك اخترتها بعناية فائقة… لتخرج كل الافكار من فوهةً واحدة، لتتشابك امامنا عياناً، تتضح الصورة لحظة بعد لحظة، ولا زلناً فاغرين أفواهنا، كيف كانت قصتك بين يدينا، ولم نقرأها ولو مرةً واحدة، كيف اصررتَ انها لك!، ولم نأبه بهذا؟، كانت النهاية مخطوطةً: “على الاموات ان يناموا بسلام!”.

رسالتك الاخيرة كانت : “قد اشتقت لك” و لم نتحدث بعدها، الرسالة التي قبلها كنتَ قد ادليت باسم شخص لالتقيه، لم تذكر شيئاً عنه يوصلني به، قلت لي هو سيأتيك… بعد موتك سارت بيَ الاقدار لأعرفه!، خفقان قلبي و انذهالي في تلك اللحظة لا تعبر عنها لغة بعينها، كل اللغات قاصرة!

في أحايين كثيرة كنت أترنم قائلاً :” وكيف سنوقف حزن المآذن، حين تنادي صباحاً عليه ولا يستجيب؟ فلا ترحل من هنا يا حبيب.” كنتُ و لازلت أنتمي لهذا النص، ولكني لم أكن اعلمُ لمن كنت أغنيه، دعني اعود الى الوراء قليلاً… قرأت اسمك في عداد الشهداء، لم أصدق، ذهبت لأرى ملفك الشخصي، وجدتُ اسمك كاملاً، لم يخطئوا باسمك هذه المرة، أنا لم اصدق ايضاً، وجدتكَ قد كتبت قبل رحيلك رسائلاً خمساً : “عينُ أنس، مبارح يا حبيبي يا أنس حلمت فيك عازمي ع الفطور اليوم، صورة عناقك لابو انس يوم خطوبتك معقباً عليها حضر حالك يا ابو انس ترحب فيا هيك ، أنا الشهيد اللي جاي، اشتقنا لكم فافسحوا المجالس”، لم أرَ أيًا من هذه الرسائل الا بعد موتك!، نحس تفويت اللحظات المناسبة لا زال يلازمني، أتصدقني لو قلت لك انني أكملت أكلَ كيس المسليّات الذي كان بين يدي حين سمعت بخبرك، هل تغفر لي هذا؟

أيًا كان، بعد يومين عدتُ واكملت نفس الترنيمة عائدًا بها الى الوراء قليلاً قائلاً :” يقولون مات، ومثلك لا يحسن الموت إلا إذا اختار لحظته الفاصلة ، وفوق المدى، كانت الشمس ترقب أقمار عينيك حتى تعود .. تحنّي ابتسامتها بابتسامتك الناحلة، يقولون غاب، ومن كان مثلك ،كيف يطيق الغياب؟” انا حتى اليوم لا أصدق، هل اعود غزة يوماً، و لا اراك هناك؟ أراكَ قبراً؟ حفنة من رمال تعتليها رخامة كتب عليها اسمك!

مرة أخرى أنا آسف يا صديقي، ربما صورتك التي رُسِمَت لكَ في مخيلتي بعد استشهادك لا تحبها، كثيراً ما تلاحقني تلك الصورة، هاتف اتى بانذارٍ لقصف المنزل واخلائه حالاً، اربعون شخصاً يهربون من المنزل، يقصف المنزل و هم في الطابق الاول، يتساقطون من الشبابيك الى الشارع، نجوا كلهم ، الا أنت وحدك، تسقط عليك اربعة طوابق، تهشم جسمك الضعيف ولا تبقي من مُحيّاك الجميل اي شيء.. كل مرةً يراودني هذا المشهد، اقاومُهُ بمشهدٍ آخر، أرى روحك بيضاء ناصعة تخرج قبل ان تسقط القذيفة، تعلوا الى قضاء الكون البهيج.. وانت ترقى بعينيك الى السماء، ترى مكانك هناك، ترقد بين الضياء والنور، تغمض عيناك بهدوء و سكينة ابتسامة تعلو وجهك، وقلبك ينثر الورود حولك، ثم يتنزل الصاروخ برداً وسلاماً عليك!

كنتَ آخر من ودعني قبل سفري، و اعطيتني كتاباً وقلت لي أعده في الصيف القادم وخذ غيره، لكني لم أعُد، وانت لم تبقى! اذًا من كذب فينا؟ دعكَ من هذا كله، كانوا في الماضي يسخرون مني يقولون أنني سريع الدمعة، مرت يا صديقي سنةٌ كاملة ، ولم ابكِ مطلقاً، المقلة البكّاءة جفّت، أعاتب نفسي دائماً عتاباً خجولاً لماذا لا أبكيك؟، ربما لأنك لم تمتْ، هذا ما اقنع نفسي به على الأقل…

قالت احداهن تعرف الرثاء: هي رسالة حبٍ تأخر وصولها الى ما بعد الموت، هذه يا صديقي رسالةُ حب، ربما تأخر وصولها، او لم يأت حينها بعد… لنقل ان هذاً عتابٌ حميمي بعض الشيء، لأنك رحلت دون ان نكمل كل ما اتفقنا عليه؟ على أيّ حال هذا ليس رثاءً، الموتى لا رثاء لهم، الموتى نجوا، الذين لا زالوا أحياءً عالقينَ هنا هم من يستحقون الرثاء.

الى الشهيد / عاطف قنديل.
10511071_669048223185483_6774302612777027199_n

رأيان حول “رسالةُ حبٍ متأخرة!”

أضف تعليق