هب أنّكَ ذاهبٌ من الطرف الاوروبي الى آسيا بسفينةٍ تعبر مضيق البسفور، لتحط قدمك في محطة السفن، ستباشرك حينها اطلالة لمسجد جميل، يسمى مسجد مِهْرِمَة سلطان، بناه ابوها السلطان اكراماً لابنته، حقيقةً هذا المسجد الجميل تحفة معمارية من الداخل و الخارج يختص بأمر مميز، في شهر نيسان و مايو حين تنظر مباشرة لهذا المسجد من ارتفاع عالٍ من برج النار(Çemberlitaş) في منطقة بيازيد مثلاً ، فانك وقت الشروق ترى بين منتصف مئذنتي المسجد تمامًا، ترى اشراقة الشمس.كذلك في مساء اليوم الرابع عشر من كل شهر سترى طلوع القمر بنفس المشهد، الغير عادي في الموضوع ان المعمار سنان حين بنى هذا المسجد بنى مسجداً مماثلاً لهذا المسجد في الشق الاوروبي في منطقة ادرناكابي على نفس استقامة المسجد تماماً، و الذي يُمكّنك من رؤية نفس المشهد من القارة الأخرى!، هل قلت لك قبلاً ان مهرمة Mihr-î Mah تعني الشمس والقمر؟
اذا انتهيت من تأمل هذا التكامل العجيب الذي أرساه المعمار العظيم سِنان ، فأكمل طريقك ماشيًا و البحر، ستجد في مسيرتك نصبين صغيرين مكونين من عدة ارقام، الاول 1923، والاخر 1453 ، أحدهما يشير الى تاريخ فتح اسطنبول، والثاني لقيام الدولة التركية الحديثة، هذان التاريخان تحديداً لا يختلف اثنان في أن جميع الأتراك يحفظونه كأسمائهم، لا عليك، أكمل سيرك حتى تصل الى كيزكولاسي “برج البنت”، لكن في اثناء سيرك دعنا نستمع سوياً لاغنية تركية شعبية ،
هنا : https://www.youtube.com/watch?v=SymcEAeYGOw
“Üsküdar’a Gider İken “، “و انا ذاهبة الى اسكودار ” التي تحكي هذه الاغنية قصيرة امرأة ذاهبة الى اسكودار تتحدث عن حبيبها “كاتبها” ربما استطيع انا أترجمها بهذا الشكل ( ترجمة حرفية وليست شعرية) :
Üsküdar’a Gider İken Aldı Da Bir Yağmur,
وانا ذاهبة الى اسكودار، هطل المطر
Kâtibimin Setresi Uzun Eteği Çamur.
معطف كاتبي طويل، و اطرافه موحلة بالطين
Kâtip Uykudan Uyanmış Gözleri Mahmur.
الكاتب استيقظ من النوم، عينان ناعستان
Kâtip Benim Ben Kâtibin El Ne Karışır,
انا للكاتب ، الكاتب لي، ما للآخرين؟
Kâtibime Kolalı Da Gömlek Ne Güzel Yaraşır.
كم يبدو كاتبي جميلاً مع هذا القميص!
Üsküdar’a Gider İken Bir Mendil Buldum,
وانا ذاهبة الى اسكودار، وجدتُ منديلاً
Mendilimin İçine Lokum Doldurdum.
ملأت داخل منديلي بالحلقوم
Kâtibimi Arar İken Yanımda Buldum.
حين ابحث عن كاتبي، اجده جانبي
هذه الاغنية رائعة جداً ولحنها مُذهل ايضاً أنا وقعتُ على كنز فريد، هذه الاغنية مغناة بعدة لغات منها العربية ( غزالة غزالة) وعدة اغاني اخرى ،و بالاسبانية اليهودية “لادينو”
هنا: https://vimeo.com/42900088 ويظهر ايضاً انتشارها في اغلب دول البلقان و هنغاريا ومقدونيا وبلغاريا وألبانيا و جوارها ، الغريب ايضاً وجدت انها غنيت على شكل “كلازمير” Klezmer و هو عبارة عن خليط من اللغات التالية : “العربية- السفارديم -العبرية- الفرنسية-الإيطالية-انجليزية”**
هنا: https://youtu.be/xeZytVePpPc
وايضاً قبل فترة وجيزة كان قد عزف لنا الثلاثي جبران مقطوعة اسكودارا جيداركان في مهرجان الشعر في اسكودار!
هنا: https://www.youtube.com/watch?v=ARWYUZBZK1w
لنعُد للوراء قليلاً، أينَ كنَّا؟ وصلنا جوار قلعة البنت، هذه القلعة التي تعلو صخرة على المياه، هيا لنركب ذلك المركب، ونعتلي سقف البرج؟ هيّا، سأخبرك هناك حكايةً هذه القلعة، يقُال ان ملكًا أتته رؤية انّ ابنته ستموت مسمومةً في عيد ميلادها الثامن عشر، و لانه يحب ابنته كثيراً قرر بناء هذه القلعة ووضعها هناك من اجل حمايتها ومنع الجميع من زيارتها سواه، في عيدها الثامن عشر، كان قد ارسلت لها سلة من الفاكهة، و تسللت افعى بين العنب، ووصلت الافعى للقلعة و قتلت الفتاة بالسم، وماتت بين يدي ابيها! و هناك روايات اخرى، وقصص حب ضمت جدران هذه القلعة، لا زال المحبون حتى هذا اليوم يذهبون هناك، لينقشوا قصة حبهم في اروقة القلعة! يمكننا أن نجلس على رصيف الشاطئ، لنرى مشهداً بانورامياً جميلاً يضم ستة معالم ( غلطة سراي، مسجد السليمانية، المسجد الجديد، وقصر الباب العالي، و مسجد السلطان احمد و ينتهي بمتحف آية صوفيا) بنظرة واحدة! ، هيّا نكمل طريقنا صعوداً حتى نصل تبة تشامليجا، اعلى نقطة في اسطنبول، لتشاهد صورة بانورامية جميلة لاسطنبول، و لجسر البسفور ، لكن هذه المرة من الأعلى ، تسمى ايضاً تبة العرائس، يأتي في يومين من كل اسبوع العروس و عروسه لهذه التبة ليلتقطوا الصور، و يقيمون مراسماً احتفالية رائعة!
اسكوادر، هذه الحي الجميل، الذي تسكنه ارواحٌ جميلة، بأغلبية متدينة، كان يسمى في الماضي اسكي دار، والتي تعنى “الدار القديمة”، والتي فعلاً لا تزال حتى اليوم تشعر انها دارٌ قديمة، لا زالت تمتلك روح البيت القديم، الذي يجمع العائلة!، ويحوي الحضارة والقدم في آن واحد ، اسكودار كانت في ما مضى مدينة منفصلةً ، لا تتبع لاسطنبول القديمة! ايه! اسكودار، هذا الحيّ الذي لا يزال جميلاً، ويغمرك بجماله ، كل مرة تزوره كانه اول مرة، لا يُمل! لا يمل! و عني أنا : لو لم أكن بيشكتاشياً لكُنت اسكودارياً!
** الكلزمير: موسيقى المزمار ويقصد بها الموسيقى الدينية، يعتبر يهود الاشكناز أن الكلزمير فنهم الأصيل و هناك خلاف أن موسيقى الكلزمير ذوق أوروبي وليست خصوصية يهودية حيث أن، “الكلزمير انه ليس إلا موسيقي الشارع الأوروبي منذ القرن السادس عشر أو بمعني أصح موسيقي الغجر وموطنها الأصلي أقليم البلقان وأوروبا الشرقية”.
المشهد من تلة العرائس نهاراً
اسطنبول ، ٣ أيار ٢٠١٥
عُبيدة